يوم وُلدت من جديد: لقاء مع الجريح المُجاهد والطالب الجامعي حسين فؤاد دباجة
"شعرت أنّني قد أصبحت في عالمٍ آخر... قيل لي فيما بعد إنّ جسدي كان يتدحرج من على جبلٍ ارتفاعه 2400 متر. أظنّ أنّني ولدتُ حينها، لكن بإرادة جديدة".
* البلد الطيّب
"ولدت في أحد أحياء الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وترعرعت في كنف عائلةٍ متديّنة، يُظلّلها مجاهدٌ عاصر الحروب السابقة، ربّانا على المبادئ الإسلاميّة، والقيم الأخلاقيّة، وأمٌّ كانت تغمرنا بعاطفتها وحنانها، وعنايتها الدقيقة بنا".
بسبب هذه التربية الصالحة، انخرط حسين فؤاد دباجة في الميادين التي تعينه على تكامله الجسديّ والمعنويّ والعقليّ. "التحقتُ بنادي الكاراتيه في عمر الخمس سنوات، والتحقت بكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في الوقت نفسه".
* تعبويٌّ فمجاهد
"بدأت رحلتي مع التعبئة التربويّة كمندوب لمتابعة أمور الطلّاب واحتياجاتهم في مدرستي بعدما أنهيت المرحلة المتوسّطة". وقد أثمرت هذه الرحلة عشقاً لخطّ المقاومة، وسعياً للانخراط في ساحات الجهاد، "التحقتُ بالعمل المقاوم بعد إنهائي للمرحلة الثانويّة، وأخذت القرار بتأجيل دراستي الجامعيّة، على أن أستكملها لاحقاً". ولم ينسَ حسين، مع عمله المقاوم، مهاراته في الكاراتيه، "أصبحت مدرّباً للكاراتيه، وحصلت على الحزام الأسود من الاتّحاد اللبنانيّ".
* الدفاع المقدّس
"بدأت المواجهة مع التكفيريّين بعد نحو أربع سنوات من انخراطي في العمل المقاوم. حاولت جاهداً أن أشارك فيها، ولكن لم يُؤذن لي بذلك". بقي حسين يتابع الأحداث التي كانت تحصل في سوريا، ويتألّم من جرائم الأعداء وسفكهم للدماء، إلى أن أذن الله له عام 2013م بالالتحاق بصفوف المقاومين للدفاع عن المظلومين والمقامات المقدّسة.
* سفرٌ مختلف
"كان قد مرّ على مشاركتي في الدفاع عن المقدّسات نحو سنتين، عندما قرّر أخي تحديد موعد زفافه، فطلب منّي أن أبذل جهدي لكي أحضر يوم فرحه. ولكن بعد يومين، تمّ استدعائي للالتحاق بالجبهة. بدأت بالتحضير لسفري ككلّ المرّات السابقة، ولكن خالجتني مشاعر غريبة، لم أشعر بها من قبل، حتّى وداع والدتي كان مختلفاً هذه المرّة".
* لكان اختارني شهيداً
"وصلنا إلى ساحة المعركة، كانت الأرض جرداء، والهواء بارداً جدّاً، والمواجهة أخذت تشتدّ. واتّخذ قرار بأن تقوم قوّاتنا بالتقدّم، لحسم المعركة، لكنّنا تفاجأنا بالأعداء كامنين خلف التحصينات، على بعد 15 متراً من موقعنا! بدأت القوّات المعادية تطلق النار علينا، فأخذنا نحن بالردّ دفاعاً عن أنفسنا. وفي أوج المعركة أصبت أنا. لم أدرك ما حلّ بي في الثواني الأولى، ولم أعد أرى شيئاً سوى الغبار الكثيف، صرت أنادي (يا زهراء أغيثيني)، (يا أبا عبد الله). شعرت بأنّني قد أصبحت في عالمٍ آخر، قيل لي فيما بعد إنّ جسدي كان يتدحرج من على جبلٍ يرتفع 2400 متر! استيقظت على وقع الصدمات الكهربائية في المستشفى الميداني، وتقرّر نقلي إلى بيروت لمتابعة وضعي الصحيّ. لقد كان بدني عاجزاً عن الحركة أثناء رحلتنا إلى بيروت، ولم يكن لديّ سوى عينيّ لملاحظة ما يحصل حولي، وبالتالي لم أعلم نوع إصابتي ومدى خطورتها".
وصل حسين إلى المستشفى، حيث كان بانتظاره أهله وأصدقاؤه. وبدأ إجراء الفحوصات والعمليات اللّازمة. بعد نحو عشرة أيّام "بدأت تتّضح لي معالم الإصابة، وعلمت أنّني قد أصبت بشللٍ سيقف حائلاً بيني وبين ممارسة أعمالي، والطبيب أخبرني بوجود تلفٍ نصفيّ في النخاع الشوكيّ. غمرني الشعور بالصدمة. نظرت إلى عائلتي، فرأيت علامات الخوف والهلع باديةً على وجوههم، ومكثت في المستشفى أيّاماً عدّة.
على الرغم من ذلك كلّه، ظلّ يخالجني شعورٌ بأنّني سأُشفى، وبأنّ كلام الطبيب ليس حتميّاً، وعلمت أن الله لن يتركني على هذه الحال؛ لأنّ لي دوراً في هذه الحياة، فلو كان دوري قد انتهى، لكان اختارني شهيداً. بدأت أتوسّل بأبي الفضل العبّاس والسيّدة الزهراء عليهما السلام، وأدركت بعدها أنّ بلائي سينتهي، لكنه يحتاج إلى صبر".
* مُصابرةٌ ففرج
"طلب منّي الطبيب أن أخضع للعلاج الفيزيائي ثلاث مرّات أسبوعيّاً بعد خروجي من المستشفى، ولكنّني رفضت، وقلت له إنني سأخضع للعلاج الفيزيائيّ بشكل يوميّ. لم يقبل الطبيب ذلك إلّا بعد إصراري. اقترحتْ عليّ مؤسسة الجرحى أن تؤمّن لي العلاج في المنزل، ولكني فضّلت الذهاب بنفسي للعلاج بشكل يوميّ، رغم الآلام التي كنت أعانيها على المستوى الجسديّ والمعنويّ -بسبب التنقّل اليومي، واضطرار الآخرين إلى حملي في العديد من الأحيان- والتي كنت أخفيها من خلال إظهار القوّة والنشاط والرغبة في الذهاب إلى العلاج بفارغ الصبر. بعد مضي أسبوعين على بدء العلاج، بدأت أحاول المشي والتحرّك بمفردي. وكان لإخوتي الفضل الكبير عليّ، خاصّةً أختي وزوجها الذي كان قائدي في الكشّاف، وتربطني به علاقة روحيّة. كانوا يحاولون التفرّغ لمساعدتي، فكان وقوفهم إلى جانبي الدافع الأكبر لي للمثابرة، وعدم اليأس".
لقد كان حسين من أهل الإرادة والإصرار، فعلى الرغم من الآلام التي شعر بها، كان يرفض الجلوس على الكرسيّ المتحرّك عند خروجه من المنزل، وكان يُصرّ على استخدام قدميه والمشي للذهاب إلى أيّ مكان يريد. "كانت المفاجأة الكبرى، بعد مرور نحو 22 يوماً على بدء العلاج، صار بإمكاني السير بمفردي".
* إرادة إلهيّة
قرّر حسين، وبعد مرور نحو سنة على إصابته، أن يستكمل حياته العلمية والعملية، فعاد إلى العمل في النادي الرياضي كمدرّب، وانتسب إلى المعهد الجامعيّ؛ ليتخصّص في التربية البدنيّة، حيث نال درجة جيّد جدّاً، كما وانتسب إلى الجامعة اللبنانيّة، اختصاص علوم سياسية. "كنت في تلك الفترة أعاني من عدم قدرتي على الكتابة بشكل دقيق، فثابرت على تعويض ذلك من خلال تمرين ذاكرتي على الحفظ، إلى درجة أنّه أصبح بإمكاني حلّ المعادلات الرياضيّة ذهنيّاً بشكل سريع".
* حسين اليوم
"أنا طالب في السنة الثالثة في الجامعة، وعلى وشك التخرّج، وبإذن الله سأنتسب إلى الماجستير في المستقبل. أعمل حاليّاً في النادي الرياضيّ بدوام جزئي بشكل يوميّ. بإمكاني القول إنّ حياتي عادت إلى طبيعتها بنسبة 70%، ولديّ الأمل بأنها ستكتمل.
إنّ التحديات كلّها التي نواجهها في حياتنا، سواء على المستوى الجسديّ أو المعنويّ، يجب أن لا تقف مانعاً من استكمال حياتنا، فطالما لدينا عقل يُفكّر، وقلبٌ ينبض، فهذا يعني أننّا بإمكاننا إحداث أيّ تغييرٍ نريده، وأنّ الالتفات إلى نِعَم الله، والإيجابيات في حياتنا، والاستفادة منها واستثمارها، تعيننا على تخطّي البلاءات والصعاب.
إنّني أعتبر إصابتي فرصة كبيرة من الله تعالى لي، فبسببها تابعت دراستي الجامعية، وبالمثابرة والإرادة سنصنع الغد الأجمل". هي "فرصة".. ولولاها لكان اختاره الله شهيداً.